وفاة حضرة عبد البهاء ورثائه

في ليلة 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1921م، توفي حضرة عبد البهاء عن عمرٍ يناهز السابعة والسبعين عامًا. وتناقلت الصّحف الخبر بصورةٍ تُعبّر عن فداحة الخسارة التي حلّت بالإنسانيّة. فنشرت جريدة “النّفير” الصّادرة في حيفا على طول صفحتها الأولى، تحت عنوان: “خطبٌ جللٌ، انتقال رجل الإنسانيّة عبد البهاء عباس”، ثم استرسلت بقولها: “رزئت الإنسانيّة بانتقال أعظم ركنٍ من أركانها، وأشهر محسنٍ إليها، ملأ الخافقين ذكره وشداه، العالِم الكبير، والحكيم الشّهير، السّيد عباس البهائيّ”. 

وكتبت جريدة “المقطّم” في 30 نوفمبر 1921م: “كان رحمه الله محترمًا من جميع الّذين عاشروه، مهيبًا كريم النّفس، متّصفًا بالأخلاق السّامية، وله أتباعٌ ومريدون… زار الفقيد القطر المصريّ قبل الحرب وأقام بضاحية الزّيتون، وعرف كبار المصريّين وفضلاءهم، وزار بعض بلدان أوروبا وأمريكا، فقوبل فيها بالتّكريم، وخطب في المحافل والمعاهد والكنائس داعيًا إلى السّلام والوئام والإخاء بين البشر، والكفّ عن الحروب، والرّجوع إلى تعاليم الأنبياء والمرسلين”.

إنّ شمس العلم قد غرُبت، وبدر التّقى قد أفل، ونجم المكارم قد هوى، وعرش الفضيلة قد ثلّ، وطود الإحسان قد دكّ، ومعالم الهدى قد تغيّرت بانتقال هذا الرّاحل الكريم من الدّار الفانية إلى الدّار الباقية.

وقدمت “النّفير” في 6 ديسمبر (كانون الأول) من نفس العام، وصفًا لتشييع جنازته، نقتطف منه فقراتٍ موجزةً لما يلقيه هذا السّجل التاريخيّ من ضوءٍ على منزلة حضرة عبدالبهاء في قلوب معاصريه ومعاشريه: “طوّق النّعش فخامة المندوب السّامي وحاشيته، وحاكم المقاطعة، ومصاف العلماء الأعلام من علمانيّين ورؤساء روحانيّين، ولما وصلت مؤخّرة الموكب، كان الاجتماع مهيبًا لم ترَ حيفا نظيره، ولمّا ساد السّكون، وقف حضرة الأديب يوسف أفندي الخطيب، وارتجل خطابًا مؤثّرًا نذكر منه فيما يلي ما أمكنّا التقاطه: … فابكوا على الفضل والأدب، اندبوا العلم والكرم، ابكوا لأجل أنفسكم لأنّكم أنتم الفاقدون، وما فقيدكم إلاّ راحلٌ كريمٌ من عالمكم الفاني إلى دار الأبد والأزل، ابكوا ساعةً لأجل من بكى لأجلكم ثمانين عامًا”.

أما إبراهيم أفندي نصّار فقال في تأبين حضرة عبد البهاء: “… أيّها الرّاقد العظيم الكريم، أنت أحسنت إلينا وأرشدتنا وعلّمتنا، عشت بيننا عظيمًا بكلّ ما تعنيه كلمة العظمة، وقد تفاخرنا بأعمالك وأقوالك، أنت رفعت منزلة الشّرق إلى أعالي ذروة المجد، قد أصلحت وهذّبت، أتممت السّعي فنلت إكليل المجد…”. تلاه صاحب الفضيلة الأستاذ محمد مراد، مفتي حيفا قائلاً: “… لا أودّ أن أبالغ في تأبين هذا الرّجل العظيم، فإنّ أياديه البيضاء في سبيل خدمة الإنسانيّة، ومآثره الغرّاء في عمل البرّ والإحسان لا ينكرها إلاّ من طمَس الله على قلبه. كان حضرة عبدالبهاء عظيمًا في جميع أدوار حياته، كان عصاميًّا أبيّ النّفس، شريف العواطف، سامي المبادئ، كان رضيّ الأخلاق، حسن السّيرة، اشتهر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها. وهو لم يحرز هذه المرتبة العالية إلاّ بجدّه واجتهاده، ولم ينل في القلوب تلك المنزلة العالية وذلك المكان الرّفيع، إلاّ بمساعدته للبائس، وبإغاثته للملهوف، وبتسليته للمصاب. كان رحمه الله واقفًا على دقائق الشّريعة الإسلامية. كان عالمًا كبيرًا وأستاذًا نحريرًا”.