رحلات حضرة عبد البهاء

إلى مصر وأوروبا وأمريكا الشمالية (1910م إلى 1913م)

مكث حضرة عبد البهاء خلال أسفاره في مصر مدة عامٍ تقريبًا، استطاع فيها حضرته أن يُعلن رسالة السلام العالمي ورسالة الوحدة والاتحاد والتآخي بين الأديان في مصر. والتقى فيها بأبرز شخصيات العالم الإسلامي من أهل الفكر ونوّاب البرلمان والرسميين وأبناء الطبقة العليا في البلاد إضافةً إلى محرري الجرائد والمجلات الذين كانوا يمثلون أصحاب النفوذ في ذلك الوقت.

من بين الشخصيات الهامة التي قابلت حضرة عبد البهاء هم الخديوي عبّاس حلمي الثاني، ومفتي الديار المصرية الشيخ بكري الصدفي، ومفتي الخديوي الشيخ محمد رشاد، والشيخ محمد بخيت، والشيخ الإمام محمد عبده، وعددٍ من الكتّاب منهم المؤرخ جورجي زيدان صاحب مجلة “الهلال”. وكانت تلك الفترة التي قضاها في الإسكندرية حافلةً باللقاءات والاجتماعات. ومن كبار المصريين الذين أتوا من القاهرة الى الإسكندرية ليتشرفوا بحضور حضرة عبد البهاء كان العالم الأزهري الشهير الشيخ علي المؤيد، صاحب جريدة “المؤيد” الواسعة الانتشار. فبعد رجوعه الى القاهرة بوقتٍ وجيزٍ كتب مقالاً ونُشر في “المؤيد” في يوم الأحد، 16 أكتوبر 1910م، عنوانه “الميرزا عباس أفندي”.

وصل إلى الإسكندرية ميرزا عباس أفندي كبير البهائية في عكا بل مرجعها في العالم أجمع... وهو شيخٌ عالمٌ وقورٌ متضلّعٌ في العلوم الشرعية ومحيطٌ بتاريخ الإسلام وتقلباته ومذاهبه... وأتباعه يحترمونه إلى حد العبادة والتقديس... وكل من جلس إليه يرى رجلاً عظيم الاطلاع حلو الحديث جذابًا للنفوس والأرواح يميل بكليته إلى مذهب وحدة الإنسان.

استدامت رحلة حضرة عبد البهاء إلى أوروبا وأمريكا، التقى خلالها بالمئات من العظماء من الفلاسفة والعلماء والأدباء ورجال الدين والفكر والثقافة والاقتصاد والصحافة، وتحدّث من على منابر ومنصات عواصم أوروبا، وكبريات المدن في أمريكا الشمالية عن وحدة الجنس البشري، والوحدة الكامنة وراء جميع الأديان، والتبرّؤ من كل ألوان التعصب الجنسي والديني والطبقي والقومي، ونادى في جميع المجامع بإقرار السلام الدائم العام كأسمى هدفٍ على البشرية تحقيقه. وصفه أهل الشرق بـ “العالِم العلاّمة” و”الشيخ الورع العظيم” و”سيّد الصالحين”، ووصفه قادة الفكر في الغرب بـ “سفير الإنسانية”.

ومن ضمن خطب حضرة عبد البهاء في الغرب، خطبةً قالها في تعريف الإسلام، يُذكر هنا مقتطفٌ منها:

“وأمّا الرّسول الكريم محمّد المصطفى عليه الصلاة والتّسليم فقد بعثه الله في وادٍ غير ذي زرعٍ، لا نبات فيه، بين قبائل متنافرة وشعوب متحاربة، … أقوامٌ متشتّتةٌ في بادية العرب، يعيشون في صحراءٍ من الرّمال بلبن النّياق وقليلٍ من النّخيل والأعناب، فما كانت بعثته عليه السّلام إلاّ كنفخ الرّوح في الأجساد، أو كإيقاد سراجٍ منيرٍ في حالكٍ من الظّلام، فتنوّرت تلك البادية الشّاسعة القاحلة الخاوية بتلك الأنوار السّاطعة على الأرجاء، فانتهض القوم من رقد الضّلال، وتنوّرت أبصارهم بنور الهدى في تلك الأيّام، فاتّسعت عقولهم، وانتعشت نفوسهم، وانشرحت صدورهم بآيات التّوحيد، فرتّلت عليهم بأبدع الألحان، وبهذا الفيض الجليل قد نجحوا ووصلوا إلى الأوج العظيم، حتّى شاعت وذاعت فضائلهم في الآفاق، فأصبحوا نجومًا ساطعة الإشراق، فانظروا إلى الآثار الكاشفة للأسرار حتّى تنصفوا بأنّ ذلك الرّجل الجليل كان مبدأ الفيض لذلك القوم الضّئيل، وسِراج الهدى لقبائلٍ خاضت في ظلام الهوى، وأوصلهم إلى أوج العزّة والإقبال، ومكّنهم من حياةٍ طيّبةٍ في الآخرة والأولى، أما كانت هذه القوّة الباهرة الخارقة للعادة برهانًا كافيًا على تلك النّبوّة السّاطعة؟”

غطّت الصحف العربيّة، خاصةً في مصر ولبنان، أخبار سفر حضرة عبد البهاء وخطبه في الغرب، ورأت فيه رسول السلام إلى الغرب، مما نُشر في ذلك الوقت من كلمةٍ ألقاها يوم 27 أغسطس (آب) 1911م بـ تونون لوبان بسويسرا – نقلاً عن الأهرام –: “… ولنترك الجور والطغيان، ولنلتئم التئام ذوي القربى بالعدل والإحسان، ولنمتزج امتزاج الماء بالرّاح، ولنتّحد اتّحاد الأرواح…، ولا نقدر أن نجد شيئًا يوافق عالم الإنسان أعظم من فيوضات الله، ولكم أسوةٌ حسنةٌ في الرّبّ الجليل، فلا تبدّلوا نعمة الله، وهي الألفة التّامّة في هذا السّبيل. عليكم يا عباد الله، بترك الاختلاف، وتأسيس الائتلاف، والحبّ والإنصاف، والعدل وعدم الاعتساف.”

لم يسافر حضرة عبد البهاء ساعيًا لكسب مالٍ أو شهرةٍ، وإنما قيامًا بواجب نشر رسالة السلام، والحثّ على نبذ جميع أنواع التعصب والكراهية، ومساندة حقوق المرأة، والدعوة للمساواة بين البشر، وضمان حريَة الجميع بما فيهم أصحاب البشرة السوداء الذين كانوا ولايزالون يعانون من التفرقة العرقيّة في الغرب، وخاصةً في أمريكا.