إن الحياة في هذا العالم الفاني تنتهي في مدةٍ قصيرةٍ، وتفنى العزة والثروة، وتزول الراحة والسرور الترابيان. فنادوا الخلق إلى الخالق، وادعوا الناس إلى سلوك الملأ الأعلى. كونوا للأيتام أبًا عطوفًا، وللمساكين ملجأً وملاذًا، وللفقراء كنز الغنى، وللمرضى الدواء والشفاء. كونوا معين كل مظلومٍ، ومجير كل محرومٍ. واحصروا فكركم في تقديم الخدمة لكل إنسانٍ. ولا تلقوا بالًا إلى الإعراض ولا الإنكار ولا الاستكبار، ولا تأبهوا للظلم ولا العدوان. بل على النقيض! عاملوا الناس وكونوا عطوفين عطفًا حقيقًا لا صوريًا ولا ظاهريًا. ويجب على كل فردٍ من أحباء الله أن يحصر فكره في أن يكون رحمة الرحمن وموهبة المنان. فما اتصّل بأحدٍ إلا قدّم له الخير والمنفعة، وكان سببًا لتحسين الأخلاق وتعديل الأفكار، حتى يشعّ نور الهداية وتحيط بالعالم موهبة الرحمن.

حضرة عبد البهاء – عبّاس أفندي

في السنوات الأولى من القرن العشرين، في عام 1892م، عندما توفي حضرة بهاء الله، ترك لأتباعه تعليماتٍ واضحةً وصريحةً في من يتوجهون إليه من بعده، فعيّن في وصيته “كتابُ عهدي” التي خَطّها بيده، ابنه الأكبر عبد البهاء، مركزًا لعهده وميثاقه؛ أي أن يتولى حضرة عبد البهاء إدارة شؤون الدين البهائي، وأمر الجميع بأن يتوجهوا إلى حضرته، ليس كمبينٍ ومفسرٍ للآثار البهائية وكتاباته وأحكامه فحسب، بل وكمثلٍ أعلى لروح الدين البهائي وتعاليمه. حيث كانت إبداعاته الفكرية أبرز مناهج التجديد والإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كان أول شرقيٍ حمل إلى الغرب رسالة الوحدة والاتحاد ومنهجًا لقيام سلامٍ عالميٍ دائمٍ.

وقد كان حضرة عبد البهاء سجينًا مع والده منذ طفولته، واستمر نفيه حتى انتهى به الأمر في سجن عكا بأمرٍ من السلطان العثماني. وعندما وقعت ثورة تركيا الفتاة عام 1908م، أُطلق سراحه ونال حريته، بعد أن قضى 40 عامًا من حياته في السجن والمنفى.

أسفاره

ورغم أنه نال الحرية شيخًا ناهز الخامسة والستين من عمره، ورغم أن شدة الصعاب طيلة حياته قد هدّ قواه وأنهك صحته، إلا أنه قام بسلسلةٍ من الرحلات إلى مصر وأوروبا وأمريكا الشمالية في السنوات ما بين 1910م إلى 1913م.

خاطب خلال أسفاره المئات من العظماء من الفلاسفة والعلماء والأدباء ورجال الدين والفكر والثقافة والاقتصاد والصحافة، وتحدّث من على منابر ومنصات عواصم أوروبا وكبريات المدن في أمريكا الشمالية عن وحدة الجنس البشري، والوحدة الكامنة وراء جميع الأديان، والتبرّؤ من كل ألوان التعصب الجنسي والديني والطبقي والقومي، ونادى في جميع المجامع بإقرار السلام الدائم العام كأسمى هدفٍ على البشرية تحقيقه. وصفه أهل الشرق بـ “العالِم العلاّمة” و”الشيخ الورع العظيم” و”سيّد الصالحين”، ووصفه قادة الفكر في الغرب بـ “سفير الإنسانية”.

حضرة عبد البهاء يخاطب تجمعًا كبيرًا في كنيسة بليموث، شيكاغو ، إلينوي، 5 مايو 1912

خطاباته

حرّر حضرة عبد البهاء ما لا حصر له من الرّسائل، وردّ على المستفسرين الذين جاءوا لسماع رسالته تاركًا إرثًا دينيًا وروحانيًا. وتناول حضرته في كتبه وأحاديثه الخاصّة والعامّة موضوعاتٍ كثيرة التّنوّع عبّر فيها عن فكرٍ روحانيٍّ واجتماعيٍّ مستنيرٍ، وبيّن أنَّ وحدة العالم في طريقها إلى التّحقق تدريجيًّا. وبنى الحلول لمشاكل العالم على أساس هذه الوحدة من خلال قِيَمٍ إنسانيّةٍ عادلةٍ، مؤكدًا أنّ التّقدّم سواء في ميادين الاقتصاد أو الاجتماع أو العلوم أو الآداب أو الفنون، إنّما يتوقّف على مدى ما وصل إليه أفراد المجتمع في تمسّكهم بالعدل، وتقويمهم للأخلاق، وحرصهم على المصلحة العامّة قبل المصالح الخاصّة، ورغبتهم في التّعاون على البرّ والخير. وكرّس حضرته جهودًا كبيرةً لإزالة الفواصل التي ما زالت تفرّق بين الناس سواء كان مرجعها التّعصّب الديني أو التعصّب العنصريّ أو التعصّب القوميّ، وبيّن أن الأديان هي طريقٌ للسّمو الإنسانيّ، فلا يجوز أن نحوّلها إلى حواجز تفصل بين البشر، وتؤدي للنزاع والجدال والحروب والدمار.

عمل الخير

ولم يشغل هذا كله حضرة عبد البهاء عن عمل الخير، ومساعدة الفقراء والمساكين، وإنشاء المشاريع الزراعية التي ساهمت في توفير الغذاء خلال سنوات الحرب والمجاعة لسكان المنطقة كلها. ففي عام 1917م، حين اشتدّت فيها أوزار الحرب العالميّة الأولى، أوصى حضرة عبد البهاء المزارعين البهائيين في منطقة العدسية في الأردن أن يبذلوا كل جهدهم في زراعة الأراضي بالحبوب بأنواعها، لاستغلالها في التخفيف من المجاعة التي فتكت بسكان بلاد الشّام آنذاك. فكانت الحبوب تُنقل إلى حيفا بناءً على أمر حضرة عبد البهاء، وتُخزّن ثم توزّع على المحتاجين من سكان حيفا وعكا، بغضّ النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي. واستمرّ هذا إلى أن وضعت الحرب أوزارها.

العدسية، الأردن

لقائاته

حضر مجالس حضرة عبدالبهاء وراسله مشاهير الأدباء والمفكرين والإعلاميين ورجال الدين العرب – على سبيل المثال لا الحصر – عباس محمود العقاد الأديب والإعلامي الشهير، والمؤرخ والأديب السّياسي شكيب أرسلان، والأديب جبران خليل جبران، ورائد الصّحافة المصريّة الشّيخ علي يوسف، ومفتي الدّيار المصريّة الشّيخ محمد بخيت، وغيرهم الكثير. وكان منزله قبل وبعد سفره مجلسًا يحضره المفكرين والأدباء ورجال الدين للتباحث والمشورة والتداول بما فيه مصلحة الناس وإيجاد الطرق لبناء المدنيّة الإنسانيّة التي جاء بها حضرة بهاء الله لهذا العصر. وذاع صيته عالميًا أيضًا، فتشرف بلقائه علماء الغرب والمفكرين أمثال: الكاتب الرّوسي ليو تولستوي، والعالم السّويسري بروفسور أوجست فورِل، والمستشرق أرمينيوس ڤامبري (هرمن) الأستاذ بجامعة بودابست، والصّدر الأعظم مدحت باشا زعيم الإصلاح السّياسي في تركيا.

حضرة عبد البهاء مع مجموعة من الأصدقاء المصريين والأتراك والهنود والبريطانيين في فناء مسجد في ووكينغ ، إنجلترا ، يناير 1913

وفاته

وفي ليلة 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1921م، توفي حضرة عبدالبهاء عن عمرٍ يناهز السابعة والسبعين عامًا، وحضر جنازته عشرة آلاف من المعزين من خلفيات دينية عديدة. وكتب في رثائه العديد من المعاصرين من الكتاب والشعراء العرب. وكتبت جريدة “المقطّم” في 30 نوفمبر 1921م: “كان رحمه الله محترمًا من جميع الّذين عاشروه، مهيبًا كريم النّفس، متّصفًا بالأخلاق السّامية، وله أتباعٌ ومريدون… زار الفقيد القطر المصريّ قبل الحرب وأقام بضاحية الزّيتون، وعرف كبار المصريّين وفضلاءهم، وزار بعض بلدان أوروبا وأمريكا، فقوبل فيها بالتّكريم، وخطب في المحافل والمعاهد والكنائس داعيًا إلى السّلام والوئام والإخاء بين البشر، والكفّ عن الحروب، والرّجوع إلى تعاليم الأنبياء والمرسلين”.

لمعرفة المزيد عن حياة حضرة عبد البهاء

يمكنكم مشاهدة فيلم “المثل الأعلى” الذي تم إعداده بمناسبة مرور مئة عام على وفاة حضرته.

الذكرى المئوية لوفاة حضرة عبد البهاء

وبمناسبة مرور مئة عام على وفاة حضرة عبد البهاء، قمنا بإحياء ذكرى وفاته في دولة الإمارات العربية المتحدة، كما تم في جميع أنحاء العالم.